![]() |
Abdul-Qader-Al-Rubai |
في عالم الأدب والنقد، ثمة أسماء تسطع بفكرها وجهودها وتأثيرها الذي يتجاوز حدود الجغرافيا والتاريخ. عبدالقادر الرباعي هو أحد هؤلاء المبدعين الذين لم يكتفوا بممارسة النقد كأداة تحليلية بل ارتقوا به إلى صورة من الإبداع الفكري والمشروع المتكامل. على مدى أكثر من أربعين عامًا، أسهم الرباعي في تطوير خطابه النقدي عبر مقاربة النصوص الإبداعية بمزيج من العمق والرؤية الاستباقية التي أضاءت خبايا تلك النصوص في سياقاتها الحضارية، الفكرية، والأيديولوجية.
عبدالقادر الرباعي: الكاتب الذي أسّس مدرسة الرؤية النقدية
مشروع الرباعي النقدي لم يكن مجرد تحليل نصوص أو شرح مضامينها، بل هو دراسة شاملة تنتمي إلى تيارات الدراسات الحديثة والثقافية. لقد أكد عبر منظوره الفكري أن النصوص ليست كائنات جامدة بل كيانات مفتوحة للتأويل والتفاعل، قادرة على البوح بتفسيرات متعددة في ظل الأدوات المنهجية الملائمة. من خلال استناده إلى التأويلية، الأسلوبية، والنقد الثقافي، استطاع الرباعي أن ينجز قراءة نقدية فريدة تمزج بين الخصوصية الثقافية والانفتاح على الإنجاز الحضاري للآخر، دون أن ينجرف في تيار الانبهار أو التحيز.
حرص الرباعي أيضًا على مد جسورٍ بين ثقافة الأدب العربي والعالم من خلال ترجماته الدقيقة والمتأنّية، خاصة لمقالات كتبتها مستشرقة ألمانية بارزة مثل ريناتا ياكوبي. هنا يظهر وعيه بأهمية تسويق الأدب العربي عالميًا، وتحقيق حضوره الفاعل في الأوساط الأكاديمية والأدبية الدولية. هذه الترجمات لم تكن مجرد أعمال نقل لغوي، بل أصبحت جزءًا من مشروع نقدي يلقي الضوء على ما يمكن أن يضيفه الأدب العربي إلى الثقافة الإنسانية.
الرباعي ليس مجرد ناقد بُنيَ اسمه على سنوات طويلة من الجهد فقط؛ بل هو واحد ممن لمع اسمهم منذ اللحظة الأولى بفضل إصداره كتابه الشهير الصورة الفنية في شعر أبي تمام. منذ ذلك العمل المبكّر، انطلق ليكون جسرًا بين الماضي والحاضر، مزج بين دراسة الشعر العربي القديم وقضايا النقد الأدبي الحديثة بنظرة تجمع بين الرؤية الأكاديمية والابتكار التجديدي. مشروعه النقدي لم يقف عند حدود التحليل إنما سعى لتوطين نظريات النقد الأدبي الحديثة داخل البيئة العربية بحيث بات النقد لديه أشبه ببناء شامل يصعب فصله عن سياقه الإنساني والجمالي والثقافي.
ما يجعل الرباعي مميزًا أيضًا هو قدرته على المزج بين الفكر الفلسفي والذوق الفني؛ إذ اعتمد في قراءاته على موضوعات أثرت المشهد النقدي مثل رمزية الطير وشعرية صريع الغواني ومفارقات عرار وشعر أبي تمام. هذه المواضيع لم تكن فقط أعمالًا للتحليل بل كانت دعوات لاستيعاب الأبعاد الجمالية والفكرية للنصوص ضمن رؤية أوسع تُعيد الاعتبار للفن كوسيلة لفهم الإنسان والعالم.
مدرسة "الرباعية الجديدة"، كما أطلق عليها أحد أبرز طلابه الراحل يوسف عليمات، تمثل خلاصة نضجه الفكري والنقدي. فهي ترجمة لمنظوره الذي لم يُسطّر بالكلمات فقط، بل زرعه في عقول تلاميذه وبحوثهم الأكاديمية التي ساهمت بدورها في تطعيم المشهد النقدي العربي بثمار جديدة. لقد تمكن الرباعي من خلق تيار نقدي يمضي بمحاذاة تيارات الحداثة مع الاحتفاظ بجذوره في التراث العربي.
في نهاية المطاف، عبدالقادر الرباعي لا يمكن اعتباره مجرد ناقد ضمن قائمة النقاد العرب، بل هو ظاهرة أدبية وشخصية فكرية تركت بصمتها على خريطة الأدب العربي الحديث؛ ظاهرة تُلهم الباحثين وتخلق حولها حوارات ممتدة تتراوح بين الإعجاب والنقد البناء وحتى التصادم الفكري. بفضل إرثه الغني والآفاق التي فتحها، يمكننا القول إنه ليس ناقدًا تقليديًا فحسب بل صانع ملامح جديدة لتجديد الأفكار وتحفيز المشاريع النقدية المستقبلية. بهذا الصدد، يمثل نموذجًا فريدًا يغذي شغف الأدب ويرسم طريقًا لمن يريد السير في دروب المعرفة الوعرة.
0 comments:
إرسال تعليق